المخيم

سأل صديق مغترب: كيفَ لقلبِ مدينة أنْ يتسع لإثنينْ، المواطن الأصلي واللاجئ القادم من قريته التي طُهرّت عرقياً ؟

عندما كنت صغيراً، أتذكرْ جيداً كيف كنت أتسلل دائماً إلى مؤخرة السيارة وأنام عند الزجاجْ الخلفي، أراقب أضواء السيارات وأعدها حتى أسقط في النوم خلال رحلة العودة الأسبوعية إلى غزة من بيت العائلة، إنّ تلك اللحظات كانت مليئة بالرضا عن تلك الأوقات، كنتُ أقضيها في المخيم مع كل العائلة والألعاب البسيطة الكثيرة، يتخللها بعض المشاكسات والتمرد على حرس الحدود الأسرائيلي المحاذي لبيت جدي.

Palestine Refugee Camp | Amman, Jordan - by Alex Korting

Palestine Refugee Camp | Amman, Jordan - by Alex Korting

ذكرياتي الطفولية تعودُ قويةً في قلب القاهرة، غريبةٌ هذه المدينة كم تمُدّني بالكثير من الأشياء، وتذكرني يوماً بعدَ يوم بروعة الأيام الجميلة التي ذهبتْ، إنّ الصورة التي تعكسُ روحَ المخيم ما زالت موجودة في ذهني، كذلك صوت الإبتسامات الطفولية* التي تملأ الزقاق بين البيوت، والجالسين بجانب بالطرقات، وأحاديث كبار السن على عتبات البيوت، تلكَ الصورة لمْ يعكر صفوها يوماً جنود الإحتلال ولا حتى الإنتفاضات المتلاحقة، ولكنها تختل الآن لتطل علينا مفرغة وغريبة.

تماماً ككلِ شيء، لا شيء يدومُ على حاله فحتى المخيم كما المدينة تطاله رياحُ التغير القذرة شكلاً ومضموناً، تخلقُ شيئاً جديداً خاليَ الوفاضْ من أي منطق يُذكّر المخيم بروحه “قضية اللاجئين”، فقد كانَ الصغير قبل الكبير يحفظ عن ظهر قلب مدينته وقريته التي هُجّر منها أجداده حتى وإن لم يكن يفهم المعنى جيداً، تلك الكلمات الصغيرة كانت كافية. أعود للمخيم لأجد ذلك البيت قد دُمر بالكامل في نفس المكان الذي قدمت فيه راشيل كوري روحها من أجل قضية الإنسان الفلسطيني، ذهب كل شيء و تبقى رمال الأرض الصفراء، مساحات شاسعة خالية بلا شيء.

مجدداَ، تبدو الحكاية معقدة، فأنا لم أحدد شعوري يوماً تجاه تلك البقعة، تماماً كموقفي اليوم من مدينة غزة، فالأشياء لم تعد مجردة وبسيطة، تبقى عصية على الفهمْ برغمِ كل المحاولات.

إن من الحق أن يتكلم عن ذلك المخيم هو أحد أبنائه، ولا أحد غيره يستطيع أن يشرح كل التعقيدات المتداخلة في تلك التجربة الفريدة، فالمخيمات على إختلاف أسمائها تتفق في نفس أشكال الحياة.

مرةً أخرى، سألَ الصديقْ السؤالَ بطريقةٍ أخرى: هل يُحب اللاجئ المدينة وقد أضحى المخيم فكرة؟

ولكن، لا أحد يجيب، ليبقى اللاجىء بلا وطنٍ حقيقي سوى قلبه الذي يحمل فكرة الوطن البعيد، حتى وإن إستقر به الحال في واحدة من تلك المدن الكبيرة، أحجية العودة وفك رموزها أضحت لغزاً، فذلك اللاجئ عصي على التحطيم ولهجته الشديدة تشدني إلى حديثه الجرئ الملئ بعبرٍ كثيرة، يورّثها المخيم لأبنائه جيلاً بعد جيل.

*أطفال المخيم مبتسمون على الدوام، يكفي لأي عدسة أن تجوب في أزقته وتكتفي بتلك الإبتسامات حتى تحصل على جائزة عالمية.

الأوسمة: , ,

3 تعليقات to “المخيم”

  1. Ishmais Says:

    كما لا يستطيع احد ان ينوب عن أيٍ كان في تجربة الموت، كذلك لا يستطيع شخص خارج المخيم اكتناه المخيم، صدقت احمد، حتى تقديم اناتوميا لجسد المخيم لن تعطي النتيجة المرجوة في وعي المنحدرين من خارج المخيم

  2. Ahmad Yaz Says:

    تماماً تماماً يا إسماعيل، كان من المفروض أن ترفق هذه التدوينة بعبارة في البداية: (إلى المنحدرين من ذلك المخيم) حتى وإنا كانت عنصرية، فهذه التجربة مميزة وأنا أعتز بها مع أنني لم أشرح شيئا عنها !!

  3. fs7atamal Says:

    حتى في مدونتك.. امتداد للأرق..!

أضف تعليق