المشهد الموسيقي في غزة: في مقاومة اللاشيء

جانفي 1, 2014

بعد السيطرة الأمنية لحركة حماس على الأوضاع في قطاع غزة منذ ٢٠٠٧ انقلب المشهد بدرجة كاملة أحدثت زلزالا عنيفا حيث أصبح توقع القادم درباً من الجنون فيما كانت المحاولات لفهم ما يجري تصبح فعلا عبثيا لا يعين على فهم الأحداث المتسارعة. إجتماعيا كان الزمن يجري بسرعة بحيث لا يترك مجالا لأحد أن يفهمه حيث بدأت الحكومة في إحتكار المسرح العام وفضاءه الضيق قبل كل شيء لأنها غير قادرة على التفاهم مع أحد سوى بلغتها التي لا تفهم إلا القوة.

بعد كوارث كثيرة غيرت في المشهد الفلسطيني وعجنته تحت أقدام الحرب ووطأة الحصار الخانق، بدأت قدرة الملاحظة تعود من جديد حيث أصبح من الضروري الكتابة عن الجو العام الذي أصبح غير قابل للحياة على الرغم من المحاولات القليلة لبعثه من جديد حتى ولو كان متماهيا مع القبضة الأمنية.

مع إنتهاء العام الحالي، يكشف الواقع الثقافي في غزة عن جفاف تام رغم كثافة الأحداث التي من المفترض أن تؤدي بنتائج ولو بسطية حتى، لكن الخوف والإرهاب الذي زرعته السلطة في النفوس قبل المكان هو العائق الأكبر أمام إنتاج مشهد موسيقي، إضافة إلى ذلك الصعوبة في إيجاد تمويل مستقل وحاضنة بعيدا عن الشروط التي تثقل العمل وتجبره على الخضوع حيث يضطر الفرد إلى الجلوس ومشاهدة كل الأموال التي تهدر على مشاريع لا قيمة لها وورشات عمل بالية لا تقدم ولا تؤخر. إن ما يمر به المجتمع الفلسطيني في غزة من أزمات مفروضة بفعل سلطة أو حصار خارجي لم يعطي إلا منتوجا مدمرا للثقافة الشعبية وخارجا تماما عن النص إذ يبدو غير متمايز مع طبيعته ونشازا يحدو لوحده دون رسالة واضحة غير معنية بتوصيل ما يجري على الأرض. بل يصل المشهد إلى حدود الإنغلاق على نفسه كما تريده السطلة التي تدفع بصورة وحيدة أمام العالم وهي أنه لا مكان للمختلف والآخر. كانت النتيجة مأساوية في هذا المسار الباهت والذي لا يأتي بتأثير رغم قلته من حيث الكمية، حيث يخرج إلى النور كل فترة أعمال صغيرة وخجولة جدا لا تكفي لخدش السطح.

قبل شهر، أطلقت وتر باند ألبومها الأول وهو يعد صراحة الأول من نوعه، من حيث تشكيل أول فرقة شبابية موسيقية في غزة، تمزج ما بين موسيقى الروك والبوب في تداخل بين الجيتار الكلاسيكي والإليكتريك جيتار والدرمز. يبدأ الفيديو الكليب الذي نشرته الفرقة على يوتيوب برجل عجوز جالس يشاهد التلفاز الذي يعرض مشهدا من مظاهرات الربيع العربي، ثم تبدأ الأغنية بكلمات دوشة التي تتماشى مع الواقع المشوش وحالة التوهان الذي يعيشه الشباب بلا أي بوصلة أو إتجاه. تكمل الأغنية بإتجاه آخر يقلب المسار بكلمات عادية جدا وبلا رسالة واضحة عن مضمون العمل أو جوهره، كأن الفراغ المسيطر لا يكفي وإنما هو إنعكاس بحت على فحوى الكلمات والفيديو كليب الذي لا يوجد ترابط بين مشاهده. لكن على العكس، تبدو الموسيقى متوسطة الجودة هي الجوهر الكلي للعمل وقالبه الوحي الذي يغطي على ضعف الكلمات وقد يأتي بمحاولات موسيقية قادمة أفضل، إذا ما تم مقارنتها مع أنواع أخرى منتشرة مثل الراب الفلسطيني الذي لديه خبره كبيرة في هذا المجال وبالتالي فإن من المبكر التنبؤ بشيء.

ولأن الفن لا يستطيع  التغاضي عن الحالة السياسية والإقتصادية المتأزمة وأن يسير بمعزل عن أحواله المحيطة، وإذا لم يتحدث بإسم بيئته التي تعاني أزمات إجتماعية من إنتشار للمخدرات وقمع سلطوي وإحتلال ولم يكن إنعكاسا لما يجري، فإنه يصبح هامشا رثا لا قيمة له.

عندما تكون العدالة مجرّد جريمة مضادّة

أوت 9, 2013

Image

شهد قطاع غزّة منذ بداية العام زيادة في معدلات الجرائم حسب تقرير مؤسسة الضمير لحقوق الإنسان، حيث وصل العدد إلى أكثر من 32 حالة قتل. في ضوء تلك الحوادث، صرّح النائب العام لحكومة غزة بأنه سوف يتم إجراء إعدمات علنيّة بعد عيد الفطر مباشرة، وذلك في سبيل القصاص من القتلة وردع من تسوّل له نفسه القيام بمثل هذه الأفعال الخارجة عن تقاليد وقيم المجتمع الفلسطيني.

على صعيد آخر، في خضمّ العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، قام جهاز الأمن الداخلي لحركة حماس بإعدامات جماعيّة بحق من يعتبرونهم -ويعتبرهم الكثير- “عملاء” للاحتلال. تمّت عمليّات الإعدام بشكل علنيّ أمام النّاس في شوارع مدينة غزة، وسحلت جثث القتلى بواسطة الدراجات الناريّة، على أيدي القاطنين في تلك المنطقة بعد أن تركهم أفراد الأمن الداخلي.

تعالت صيحات الاستهجان من المؤسسات الحقوقية ضد من قاموا بهذا العمل، بوصفه لا إنساني، على الجانب الآخر، لم تقم الحكومة بأي رد فعل أو تصريح، سوى الصمت وتبرير الفعل إستنادا إلى ما فعله عامة الناس بجثث المقتولين. وأن ما يحصل مبرر، خصوصاً في أوقات الحرب والأزمات. مع العلم أن عمليّات الإعدام الأولى وقعت بشكل مفاجئ لأشخاص مرتبطين مع الإحتلال، ومعروفة أماكنهم مسبقاً، وتم إطلاق سراحهم مؤقتاً من السجون خوفاً على حياتهم من القصف إلى أن تنتهي الحرب على قطاع غزة.

قد يبدو الأمر مبرراً في وسط بيئة لم تستطع أن تناقش مدى جدوى عقوبة الإعدام بحق المتخابرين والمجرمين، ولم تجد من الأصوات ما يكفي لكي تدافع عن حق هؤلاء في الحياة، مقابل معقابتهم بشكل قانونيّ وإنسانيّ. لكن عندما ينجح الكثيرون في تصوير عقوبة الإعدام على أنها ضرورة ويتم إضفاء طابع الشرعية عليها، فيجب التكلم بشكل صريح عن هذه المأساة، حين يسهم الصمت في تحويلها إلى طقس شرعي تمارسه الجهة التي تحتكر العنف (الدولة والمجتمع).

من المعروف أن الحجّة الكبرى لأنصار هذه العقوبة هي عبرة القصاص، فالرؤوس لا تقطع لمعاقبة أصحابها فحسب، بل لتخويف من تغريه التجربة بتقليدهم، عن طريق مثال مخيف. إن المجتمع لا ينتقم، بل يريد أن يقي نفسه. إذا ما إحتجنا إلى تصور مقرب لآثار هذه العقوبة، فإن المجتمع بذلك يشهر رأسه لكي يقرأ عليه المرشحون للقيام بجريمة مستقبلية أفعالهم بشكل واضح. كما يقول الكاتب الفرنسي ألبير كامو.

قد تكون هذه الحجة ذات تأثير لو لم نكن مرغمين على أن نلاحظ أن: “المجتمع نفسه، لا يؤمن بالعبرة التي يتكلم عنها”.

لم يثبت أن عقوبة الموت قد جعلت قاتلاً واحداً يعدل عن ممارسة القتل وبالتالي وضعه في خانة أخرى دون نزع انسانيته عنه. ففي بعض الحالات أدت هذه العقوبة إلى الزيادة في الجريمة وإضافة تأثير الإغراء على مجرمين أكثر وخلق مفاهيم مختلطة ومشوهة عن فكرة العدالة التي تقوم بالقصاص النهائي. تأثير إغراء على آلاف المجرمين وزرع مفاهيم مشوهة في من يعاصرون هذه الجرائم.

أنها تشكل مثالا كريها لا يعرف أحد إلى ماذا ستؤدي نتائجه، سوى إلى مزيد من العنف والتدمير الذاتي للبنية المجتمعية القائمة على الاحترام مع الآخر وعدم تهميشه. إن الجهة التي تخوّل نفسها بتنفيذ القانون تزرع هي بذاتها الشك في كل أساليبها المرتبكة، خصوصاً في بيئة مثل قطاع غزة لم تعرف الإستقرار أبداً.

هذه السلطة التي تتوهم بأنها تؤمن بالعبرة في هذه العقوبة، هي بالفعل تفضل التقليد لكي تدرء عن نفسها مشقة التفكير، فتأخذ طريقا مختصرا لتنفيذ إعدامات في وضح النهار أمام الجمهور. أي أن البقاء الفعلي لهذه العقوبة ما هو إلا ترسبات من قوانين القرن الثامن عشر والتي أخذت شكلاً تقليدياً وطابعاً مجتمعياً تخجل الدولة من تغييره بحيث أصبح جزءا من الروتين الذي يفرض نفسه دون مناقشة.

إن جميع الإحصائيات التي تخص البلدان التي ألغت عقوبة الإعدام والبلدان الأخرى، تظهر أنه ليس هناك ترابط بين إلغاء العقوبة والإجرام أو وجودها. أي أن الإجرام لا ينقص ولا يزيد، المقصلة موجودة والجريمة موجودة بشكل واضح ولا يوجد ترابط بينها وبين القانون. أولئك المتشدّقون ممن يمسكون بالسلطة المتطرفة في غزة والفاسدون في الضفة الغربية، أولئك المتورطون في سنّ قوانين وتشريعات لاإنسانية في سبيل البحث عن حل لمأزق لمشاكلهم المتراكمة، أولئك الميّتون سريرياً بعفن الوطن وتحرير فلسطين، لم يستطيعوا أن يفهموا أن العقوبة القصوى حسب فعل “الخيانة” المجرد بنظرهم، لن تزيل من الوجود أي جرائم وأن عوقب الموت قبل قرون لم يؤدي إلى إنقراض جنس قابيل.

توليفة المجتمع والسلطة تخاف من تسمية الأمور بحقيقتها الفعلية، تحتاج إلى أن تعيد النظر في أخلاقياتها، لذلك كما يقول ألبير كامو: “إن القصاص الذي يعاقب دون أن يقي، يسمى بالفعل إنتقاما لا مبرر له”. إنه جواب حسابي على من يكنث بقانونه الأساسي، وهذا الجواب القديم يسمى “الثأر”. ذلك الإمتياز الفاحش الذي لا يحقق مقتضيات العدالة يعطي الحق بأن يعاقب ذنب نسبي بجريمة القصاص النهائي الذي لا رجعة فيه. إذن المسألة ما هي إلا عاطفة متناقضة وغبية، إذا فقأت عيني فسوف أفقأ عينك، عاطفة عنيفة لا قضية تتعلق بالمبادئ.

مسؤولية من؟

تلك الغريزة التي تقتضي حفاظ المجتمع على نفسه وأفراده، تفرض على أخلاقياته بأن تكون المسؤولية الموجودة مقررة بحق وينبغي قبولها بعيدا عن المثاليات ولكن الحق في وجود تسامح سيحمي المجتمع من الإنهيار ذاتيا. أي أن المسؤولية عن الجريمة لا تقع على المجرم وحده بل يحمل المجتمع أوزارها أيضا مشاركة مع السلطة القضائية الكفيلة بسن تشريعات إنسانية تضمن الحقوق لكل الأطراف وبالتالي عدم وجود عقاب أو ثواب مطلق.

ختاما، يقتضي القول أن الجريمة الموجودة التي بولغ في عقابها تدنس المجتمع مع مر الزمن وتفضح العقوبة بأنها جريمة مضادة لا أكثر.

*الصورة أعلاه: التقطت في تشرين الثاني 2012 لعملية سحل أحد المتهمين بالتخابر مع الاحتلال بعد قتله. تصوير: عادل حنا.

“هناك ضوءٌ يقتل”

ديسمبر 30, 2012

ما زالت أتعرق بدون أسباب مقنعة سوى أن يعزها الكثير من الأطباء إلى مشاكل نفسية. “تعال قبل إنقضاء الشباب”، هكذا كانت تغني، لا يهمني تذكر إسمها في هذه اللحظة، كان اللحن يتردد في رأسي عندما كانت اللوحات الإعلانية الكبيرة في إحدى المدن تسّوق لمنتج فاره بشكل فظ، بينما يجلس أكثر من ثلثي الشعب تحت خطوط كثيرة أقلها سوءا خط الفقر، من قال أنني أهتم ؟!.  في نفس الوقت كانت الجسور تبتلع نفسها في عقلي وتتدحرج كمكعبات “الليجو” التي ربحتها من مؤسسة ألمانية قبل عقد من الزمن، حينها كانت التحديق المستمر إلى الخطوط البيضاء التي تفصل الطريق يسحبني إلى أماكن كثيرة خارج الوقت ويرميني في مؤخرة بالباص لأتنفس قليلا من هواء العادم التي لم تعهد غيره هذه المدينة الكئيبة. حسنا، أنا أكره هذه المدينة، أكرهها كغريب عابر لم يرى شيئاً، أكرهها بقدر المباني المتهالكة على أكتافها، أكرهها كشحاذ لا يملّ مهنته البائسة.

******

المشكلة أن السيجارة تنتهي ..

“في شي غريب، بحس إنه السما بتتغير لما نعدي من المعبر على سينا” .. هكذا يقول محمود قبل فترة قصيرة، بعد المعبر الفاصل بخطويتن بين الحدود والدول، كان لون السماء يتغير ويوسّع لحنها نحو السماء السابعة، لكننا هناك في البلاد التي تطل على البحر لم نعهد ذلك، رغم ذلك كنا قد إعتدنا على طعم القيد والسجن بلا جدوى سوى أن نتخبط في الفراغ الهائل في داخلنا.

“هناك ضوءٌ يقتل”، هكذا يتكلم بلزاك عن المسافة الفاصلة بين السريالية والواقع وعن الألحان التي تعزفها مخيلاتنا الحمقاء. عن الموسيقى وعن الوعي، عن الإنفصال وعن التوهان في لحن “تل الزعتر” لزياد رحباني، عن الزئبق الذي يسري في الدم ويهيج الذاكرة لقرون مضت، عن الحنين إلى الدم  الذي يبقى وعن الكيمياء،عن المعارك المستمرة في كهوف السبعينيات بين قفزة وأخرى على البيانو. كل ذلك يحدث بينما يتسلل الكونشرتو عميقاً إلى تفاصيل الذاكرة.

عند قدم السلم وقبل الحروب مع المساحات الأخرى من الحدود، عودٌ لزمن إنهيار القلب مع كل أغنية ورجفة الروح مع كل لحن وتخبط العقل مع كل صوت يغني وإرتخاء الأذن لتفاصيل الموسيقى الدقيقة وعزف الآلات، تلك الأوجاع التي تعتريك في معدتك قبل اللقاء، وذلك الوقع المتثاقل لصوت حروفها، الإرتباك المتسارع في ترجمة المشاعر وعدم الإفلاح في الإفلات من نطاق الجاذبية. كل ذلك التخبط قبل خروج الكلمة المعهودة.

قبل الحرب مع الجهة الأخرى من الحدود

سبتمبر 26, 2012

كان الوقت ليلاً بعد منتصفه وكنا منشغلين في القضاء على ما تبقى من زجاجات البيرة، أذكر أننا قد مررنا بالسور القديم لعكا وأزلنا القمر من هناك لنبعثه إلى غزة في محاولة يائسة لكن الوقت لم يكن حليفنا، كان عازف البيانو الوحيد الذي رأيته في حياتي جالساً على السور ورأسه نحو البحر، وبينما كان يلّون الموسيقى بصراخه العالي وعصبيته المطلقة، كانت قناديل البحر تلتهم ما تبقى من بهجة في تلك البلاد. على الطريق الساحلي الذي يمتد من يافا إلى الأطلسي، كانت النخلة التي نقش جدي إسمه عليها قبل نصف قرن ترتفع لتصصدم بحافة السماء دون رأفة بها، وقد شارفت الشمس على الإنتهاء في منتصف السماء وصلنا غزة “مدينةً بلا أعمدة ولا سماء”، حينها كان الجحيم ينساب مباشرة إلى خلايا المخ ليقتل ما تبقى فيها من تاريخ صلاحية في عمرها. في نفس الوقت كانت البلاعات شاهقة تبتلع الناس وتحيلهم إلى حشرات، فيما كانت الصراصير الصغيرة تتصدر المشهد حاملة لكتب بالية وشعر صدئ والكثير من الترهات، كان الهواء مشبعاً برائحة الوهم، والبحر كهلٌ يرمي حباله ليصطاد شيئاً من مستنقعنا، ثم يستريح في قيلولة الظهيرة قبل أن يدخن سيجارة أخرى. حينما جاء الليل بستاره، كان مشروع التحرر الوطني قد تحلل في “نفق” صغير، ولم من يعد من الرؤيا أو العبارة أي شيء سوى رائحة رطوبة في الهواء، كل ما كان يجري تحت الأرجل ما تبقى من مياه الصرف الصحي يتم تمويله بواسطة الـ USAID.

في الزمن الموزاي، كان الزمن خارج حدوده، يقاس بمعايير مختلفة، كانت المسافات تقاس برحلة البحث عن البهجة. في المسافة من ركوب المترو من أطراف القاهرة إلى وسط البلد كانت الطريق تقاس بألبوم كامل لمغنية روسية شابة، بينما كانت المسافة بين محطة وأخرى تقاس بصورة وأغنيتن، كنت أعدُ الألبوم بعدد الوجوه التي تتداخل في مقصورة القطار، وكانوا لا يعدونني ولا يرونني من البداية إلا بموت الوقت والملل.

أحلام في درجة الموت

أوت 24, 2012

بالأمس كنت واقفاً أمام حوض صغير لا يتسع إلا لبعض من الأطباق المتسخة. لكن ربما يتسع لهذه المؤخرة الكبيرة التي يحملها الكوكب، الوقوف خاصة ولمدة طويلة يبعث على الإنتحار لكن “فقاعة صغيرة” كفيلة بتغيير النوايا، نعم، فقاعة صغيرة لفتت إنتباهي للحظات، الماء مازال يتدفق من إرتفاع كبير وإرتطامه بأحد الزوايا لملعقة صغيرة لعينة يدفعه بإتجاه آخر نحو قميصي، رغم أن الفقاعة ما زالت تدور في الهواء الضيق، لم أكن في أفضل حالاتي ولن أكون يوماً، تتدخل سماعات الأذن لتُشغل نفسها في وظيفة ثانوية، كانت ترمي لي بهلوسات كثيرة، البوست روك كان يهذي في أذني، أخبرني بحلم يروادني منذ فترة، طفلاً صغيراَ يرى مقاتلين من “زيت وزعتر” يجرون بين الجبال، من موقع إلى آخر، من نشوة إنتصار إلى آخرى، ينتقل الوطن في الموضع الذي تدوسه أرجلهم كما يقول “فانون”، يتملكهم الخوف والرعب لكنهما نشوة ترتفع، وشاب صغير متأخر عنهم يستمع للموسيقى على جهاز الآيبود، إنه يهذي أيضاً غير مبالٍ وينفصل إلى أجزاء كما فعلت الفقاعة. كيف لتلك الأشياء الصغيرة أن تختفي ببساطة؟.بيد أن الحوض مسدود والأسئلة، إنها كثيرة، لكنها تبتسم. في ظل ذلك، أتذكر أنني قد هربت إلى فسحة محدودة، كنت أتخطى الملل بصنع وجبة من الطعام، وجبة تسمى فراغ.

لم ألمس الفقاعة إلى الآن، لقد حبست نفسي بدخلها ونفذت إلى حكايات جديدة مثل “خرارريف” جدتي التي جاوزت السبعين من العمر. في بداية عمري، أخبرتني جدتي الكثير من الحكايات والخرافات في قلب المخيم تحت صوت المطر المتساقط على سطح الإسبست، فعرفت “الوطن”  وتفاصيل البلاد قبل أن يتسرب الكثير من شريط الذاكرة، هكذا فعلت بعقلي، أرغمت حبل الذاكرة المعلق على الإهتزاز، وحركت مرجوحة العقل من مكانها لتعود دائماً في حدود الذاكرة.

****

إلى حيفا، الرسالة قصيرة جداً وتُغرق نفسها بين السطور، إنك تأتيني في الحلم منذ فترة وأنا لا أواجه الأرق بسببك لكن الجسد ميت والعقل سرمدي مغلق كصندوق أسود. إنني لا أعرف حدود نفسي فكيف أعرفك وأنا لم أنتهز فرصة لزيارتك قبل ذلك؟. كان همُّ الجميع منصباً على زيارة الله في حجر أو إثنين، أو أن الطريق المليء بإشارات واضحة قد إنحرف عن مساره؟.  إنهم لا يعلمون شيئاً،( هما مش فاهمين) ولا أنا  لكنك باهتة في نظري وغامضة، وأنا كذلك، رقم مجهول بالنسبة لمدينة تواجه ترسبات الملح في آخر الليل على عنقها وتبدو ثملة، هل تعلمين لماذا أخاطبك؟، فقط لأنني لا أعلم شيئاً سوى التوهان في خيط طويل والتفكير كثيراً بدون أسباب مقنعة قد تصل بي درجة الغليان.

 أما عن الإحساس بالخفة، كان الحديث والنقاش يحتدم بحجم ما يحتويه الكأس الموجود على الطاولة من مشروب، الكلام يتزايد ويتسع كمحيط الدائرة. أخبرته أنني أصبت بالملل من التكرار والإستقرار، أخبرته أن العلامة التي يتركها خاتم ما على الإصبع يبدو مرعباً بالقدر الكبير الذي يحمله من التبلد والفزع من الفراغ، وأن الضحك على شخص قد غير حالته العاطفية إفتراضياً مرات كثيرة مفيد للبهجة، وأنني أدرج الكثير من “التعاطف المفرط” مع أي قضية إنسانية كدرجة عالية من السخافة، أيضاً، أن التحديق إلى النجوم مفيدٌ للخيالات لكنه أمسك رأسي وأخبرني أن أنظر إلى الدائرة من محيطها، إنظر بزاوية 360 درجة، ألا تفهم؟. جلس هادئاً يحدثني:

 كان حديثه كاملاً بما يكفي ليهز الأركان، حديث طبيعي بنص مقدس يتلوه شخص من تجربة أخرى تجري أحداثها على الصفوف الأخرى، كان يروي بهدوء وسكينة، بدون إنفعالات كأنه يتلو من كتاب ما، كتاب معلق في رأسه، لم يكن يحلل الوضع الإقليمي، فقط كان يروي لي حكاية ما. من المفترض أن تلك الأحداث تبعد عشرات الكيلومترات لكن حاجز إسمنتي كفيل بالقضاء على أمل الوصول إليها. إنه يغذي عقلي بالأمل لكن ماذا يحدث للوطن عندما يرتفع إلى درجة لا ترقى إلا للموت؟.

كلاسيكيات مهترئة على الطريق السريع

أوت 21, 2012

**

العالم ينتهي بعد الثالثة صباحاً، ويصبح أثقل يوماً بعد يوم، هذا ما أخبرني إياه الملل في تلك الساعات. الجلوس في مؤخرة الباص يجلب النعاس والهواء لا يكف عن ملاطمة الشباك والخصل النابتة في فروة رأسي، والسماعات في أذني تعطيني فرصة لأنتهك خصوصية الكثير من الجالسين والتحديق لفترة طويلة، أظن أن الشخص المزعج بجانبي مدمن على الخيال، يبحث عن شخص ما في الأسماء ثم يتصل بذلك الرقم، ويضع الهاتف على أذنه بلا كلام، لا يحتل ذهنه سوى محاولة أخيرة للإستمناء، لكنها فاشلة بعدد الأضواء التي تلف الطريق. على كلٍ، الرجل الجالس في الكرسي الأمامي يخرج أصابعه من الشباك لكي يتحسس الهواء، أما أنا فأخرج يدي لأشعر ببرودة الهواء القادم من الغيط، أخيراً الهواء خالي من رائحة المدن لكن التانغو يملئ الهواء المعتق في رأسي.

 في مرة قررت أن أكتب أغنية لعلها تصبح كلاسيكية بعد زمن، ما أكثر المحاولات الفاشلة، لكن الكلاسيكيات تذكرني بالمطر الخفيف، والمطر قريب من الذاكرة، المطر يتساقط في قطرات وحيدة، المطر حالة جميلة من الإختلاف، لكن العالم لا يتعايش مع الإختلاف. أما في هذه البلاد فإنهم لا يعرفون المطر، أخبرتهم مرة قصة عن تساقط أغنيات المطر من السماء لكنهم لم يصدقوني. ومرة أخبرتني صديقة عن الثلج، فقط حدثتني عن الثلج المخملي، وأن أهل الثلج ينظرون بدونية لأهالي بلاد المطر، وكذا يجري التصنيف، هل يهم حتى؟ يبدو أنها لم ترى ما يفعله البحر؟!، كانت الإهانة ناعمة بلا زوايا لأنها قادمة من الجبال.

أما رأسي فكان عقيماً ولا يعرف ما يكتب ..

قطع صغيرة من الجحيم

جويلية 24, 2012

 الوقت يتآكل كلما إحترقت أوراق التبغ، والجنون الذي يلف رأس الكوكب الميت سريرياً لم يبدأ بعد، الصداع الذي ينتج الأرق لا يحُتمل وكل المسكنات الكيميائية لا تفلح في إيقافه لثواني معدودة، حتى في ذروة التقزز الذي تتملكنا من كل شيء، لا يمكن أيقافه إلا بسيل من الأفكار الذي خلفها موت جرذ بداخلنا، رغم أن الحنين إلى الجنون في هذه الحالة يغدو أبدياً إلا أنه يبدو أكثر فعل عقلاني في ظل الإهتزازات التي تضفي معنى إلى تلك الأيام واللحظات المتراكمة منذ البداية. إن الإحساس الفعلي بمرارة الأيام وإكتظاظ الأفعال يتساقط أمام الفراغ الذي يخلفه النجاح، والتهرب من حتمية وجود مصير ما يغدو مناخاً لائقاً بما يكفي لفعل شيء قيم بذاته أو نذره للعدم.

 الحبل المعلق في رأسي كان آخر المحاولات لقتل الإيمان لشيء بعينه، والإنتظار الذي علقت به نفسي كان أول المحاولات السيئة للتفائل بالمستقبل. الموت المعلن في إنتظار “حلم الخلاص” ليس سوى سراب، تتخايل فيه الحقيقة التي تسير بها ديمومة التاريخ وسريانه في الشرايين الأولى للكائن البشري، فعندما فشلت الأدوية في إنقاذ آلاف البشر، أصبح التضرع إلى الغيب مذهباً قيماً يصلح لإعادة تدوير التفائل وإنتشاره كعدوى.

 بضعة أسئلة وورقة إمتحان كاملة هي كل ما يلزمني لأصعد درجةً واحدة على سلم التطور البشري، الحل الوحيد، هكذا أخبروني قبل أن أبتعد مسافةً ودهراً، أن أنتشر في غابة العزلة واللامبالاة في مواجهة المخزون الكبير من التعاسة الكونية وفي مواجهة أشباح الإحتراق من القوى المظلمة، أن ترتجل فعل الكتابة أي “أن تدين ذاتك في جلسة محاكمة” كما يقول هنريك إبسن، تخاصم العالم وتضيف سحراً إلى الهوس بالموت في أي لحظة خارج تلك الدوامة، أن تعري وتفضح، تخلق القدرة على الإدراك الطفولي للأشياء وفهمها، أن تنتقل من جزيرة إلى جزيرة مخلفاُ وراءك الكثير من الفوضى، أن تحيل الواقع إلى قطع صغيرة من الجحيم وتنثر رمادها من فوق جبل، إنها الترجمة النهائية لـ أن “تضع العالم في مؤخرتك غير مبالٍ بعد ذلك” كما فعل كثيرون قبل ذلك.

مسمار صدئ في نعش المدينة

جويلية 7, 2012

 الشعور بالزخم يتطاير في الهواء كرائحة البنزين، والملل “الطبيعي جداً” يكبر بصورته أمام الكتب والكتابات التي تهدم المعبد وتلغي فعل السماء من مباركة بجاحة البشر، المبالاة  والرغبة في فعل شيء جيد ذو قيمة لم يعد موجوداً، فقط أتحامل على الأفكار أن تتنازل عن وقاحتها أمام أرضية الواقع الصلفة دون كبح الجماح للخيالات، التوقف عن الشعور بخيبة الأمل والبدء في اللهو واللعب، محاولة الدخول إلى شيء جديد كانت وما زالت ترعبني دائماً، مصادقة أشخاص جدد والتقرب منهم مرعبة، تجربة مكان جديد، الإستماع إلى لون موسيقي جديد، ممارسة العادة السرية دون أن يلاحقها من الإحساس بالذنب والإحتقار، أن أكون دخيلاً كحشرة، كمسمار صدئ في نعش مدينة ولو لمرة.

عندما عرّفوا الغباء بأنه فعل للشيء نفسه مرتين لم يخطر ببالهم أن يعرّفوا الجنون، إنه فعل الشئ مرة واحدة بدون إكتراث للعواقب، الفعل الأجمل والأوحد الذي عرفته البشرية.

ينقطع تسلسل الأفكار لمرتين، ماذا بعد كل شيء؟ وماذا بعد الشيء؟ ماذا بعد الخلق وبعد سفر التكوين؟ ماذا بعد نتائج العبث؟

 لم أستمع للموسيقى الكلاسيكية منذ فترة، كانت تأتيني في آخر الليل وتبوح لي بأشياء كثيرة، عن إبنة الجيران التي لم تعجبني يوماً، عن الإزدواج للحياة والموت، عن الإنفصال الدائم بين الأبدية والواقع. بعد أن أفرغتُ زجاجة نبيذ إيطالي من محتواها، تتضح إلي مزاجية بيتهوفن، لكن يتراءئ شوبان على بعد مرمى من حجر، وأمام البصر يتخايل لي باخ هادئاً معتاباً السماء للمرة الألف على غير عادته، تتواجه موسيقاه وأفعال النذر لله والسماء. إنني أحلم بجو ماطر، على العشب أو على سفح الجبل، وكورساكوف خارج الحانة يهذي بحب الطبيعة ويشكرها على فضلها في خلق التناغم أمام البشرية لممارسة فعل الموسيقى.

*****

 بعد أن تصيبني معادلاتهم الرياضية بالغثيان، أقتلع عيني لأستريح قليلاً، لا أتنفس سوى نفسي، أبصق روحي بجانب كشك سجائر على رصيف الشارع، أندفع مع تكاثف الماء على سطح زجاجة باردة، أتعلم التسول من رسول جاء في القرن الثالث للميلاد، أتسول التاريخ في قاع الزمان. لي صديق من فارس، يخبرني أن الإله هو الراقص الأكبر على جرحنا، وأنا جالس أشاهد الفتاة المحجبة تمسك بيد صديقتها الأخرى، تهمس لها بكلام كثير أمام شاطئ البحر وتبتسم في مشهد يطيب لي كثيراً بدون إفتراضات.

*****

تتأجج العبارات وتتداخل …

العشاء الأخير لمقاتلي مخيم جنين قبل الإجتياح الإسرائيلي – 2002

ولأن الذكرى أرجوحة العقل. ينهي الحورايون عشائهم الأخير من دون مسيحهم فالتاريخ لا يحتاج للإبتذال مرة أخرى، التاريخ مصاص الدماء، ومن ثم تأتي فدائية البيت العجوز لتخبرهم بأن الحنين إلى الموت مؤقت، إنه مزيف، إنه تحول في الحنين إلى كيمياء الدم بعيداً عن الروح، تصمت قليلاً وتكمل نحن لا نحتاج إلى ذريعة لنحملها معنا، نحن أسياد الأرض، وحدها الديانات من تحتاج إلى الآلام لتعذبنا، وحدها تجرنا إلى حيث تريد، لا تكونوا جلادين ولا مصلوبين أيضاً إنه دمنا هذه المرة، دم المسيح لم ينتصر، خلق الخرافة وتخلد في جوف السماء. تتكاتف البيوت الصامدة في أول المخيم و أسطورة “جنين” أمام التاريخ، ردة من الدين الأول إلى دين أرواحهم، مع صوت الرصاص وصوت العبوات الناسفة، تناسق الإنفجارات ومن ثم لا دور للمنتصر بعد فناء الأسطورة.

مشاريع مؤجلة

جويلية 2, 2012

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

في البدء كانت الصرخة، ثم كانت التشققات الراسخة في حائط البشرية والإنسانية جمعاء. أولئك المزعجون الذين لا يكفون أبدا، كازنتزاكي مثالاً في يومياته: (لكل إنسان صرخته الخاصة، ترتفع في الجو قبل أن يموت. لذا علينا ألا نضيع الوقت لئلا يفوتنا الأوان. أنت إنسان ولست نعجة وهذا يعني أنك شيء قلق وصارخ فلتصرخ إذن! إن قسمة الإنسان كامنة في شيء واحد فقط: ان يعيش ويموت بشجاعة دون التنازل عن قبول أي جزاء).

 المشهد التالي يتكرر في رأسي منذ عام ونيف، وقتها لم يدر في ذهني أن أحتقر المدن الصغيرة أكثر من ذلك، أن أجدد الكراهية، أن أفهم ما يجري هناك:

  وقفنا على تل المنطار (أعلى منطقة في المدينة)، يحدثني الرجل الغريب عن المنظر المعتاد لمدينة غزة، يقول لي: إنظر إلى هذه الكتل الإسمنتية، “غزة مدينة الكتل الإسمنيتة”، “فيش فيها ولا شجرة بعكس القاهرة اللي مليانة شجر رغم فجاجة إزدحامها وزخم الحياة فيها”. يعترف الرجل بسقوط الأسطورة التي تخلقها الشعوب لنفسها في عدم وجود شيء، في ظل تحلل المشهد الذي تسقطه من الماضي على واقعها المهزوز والمملوء بشيزوفرنيا التفكير والتصرف، يصمت الرجل، ثم ينسحب إلى مكب النفايات ليرى عالم آخر، يتحلل، أو يلتقطه طائر يعبر به الحدود إلى التلة الأخرى.

  منذ ولادة الأزمة في عام 2006، الإيقاع المؤقت ذو الوجه الواحد فرض نفسه منذ أعوام ليس بقاتل وحسب، وإنما أشبه بكائن طفيلي، ينشأ من العدم، ثم يبدأ دورته الحياتية على ربوع الكوكب المغلف كعلبة السردين، ينهش في عمر البشرية، يتكاثر، يتبرز، ينتج ما ينتج حتى الموت. تتواجد البكتيريا في الهواء لكن في سكون، تتكاثر بأنواعها، تتخايل إلي في داخل الشقوق التي تملأ الجمجمة، رغم كثرتها لا تمثل شيئا وأنا ما زلت صغيراً أحدثها وأحسب أني أراها في تتطاير في إختراق أشعة الشمس للهواء.

ما حدا شريك حنا ..

الوقت: منتصف الظهيرة، لقد حان موعد الكهرباء، يبدأ التلفاز في عرض نشرة أخبار الجزيرة والمشهد السوري يطفو على السطح كجثة هامدة بلا حراك لحساب أشياء أخرى بما أن هنالك متسع من الوقت، الفواصل الإعلانية القاتلة التي تعرضها قناة الجزيرة: مشهد لجبران خليل جبران وكلمات مكتوبة “ماذل لو إحتفظ بحكمه لنفسه؟” ثم شعار شركة قطر للغاز. كل ذلك يأتيكم برعاية النفط والغاز الخليجي.

 كل ما يشغل رأسي الكثير من المشاريع المؤجلة، تتزاحم بالقرب من آخر سنتميرات في الجمجمة بجانب أرق التخرّج، تتكدس، أبناء الزواني والعاهرات يتمايلون فرحاً بإقتراب العقارب من بعضها وإقتراب لحظة إنفراج العالم على مصراعيه، وبعضٌ أخر يتشبث بحتمية “القضاء والقدر”، لكني لا أملك الرغبة في قضاء الوقت أو الرقص حتى، لا يهم.

  على لسان صديقي “علي”

“إن النص الخارج من القلب إلى المساحة المعبدة بتفاصيل بيضاء كثيرة، أقوى من فوهة البندقية في رسم معالم الطريق ،يتحايل النص على كاتبه ويخرج عنه في أحلك اللحظات التي لا يستطيع إحتمالها، ليعود بعد أن يحارب قوياً، هكذا كانت البداية وهكذا ستظل”.

سيكولوجية الجلوس عند طرف السرير

أفريل 19, 2012

عشرة فناجين قهوة بلا سكر … علبة سجائر كاملة .. ألف مرة خرجت إلى الشرفة ثم عدت .. هل تذكر كم مرة دورت إبرة الراديو ؟ كم مرة غيرت الإسطوانة ؟ كم مرة حاولت أن تشرب جرعة من الخمر الذي تخبئه في خزانة الملابس ؟ لماذا لا تجلس على طرف السرير وتضع رأسك بين كفيك ، وتعترف بهدوء : (أنا غريب ! ) ؟

العطش – الشهيد غسان كنفاني/ قصة قصيرة.

تذكر، لا أحد يعبأ بأفكارك ولا بأحوالك أيضاً ، ولا يهم ما إذا كانت حالتك النفسية مستقرة أم لا، المهم أن تغرق بأفكارك في آخر الليل، لا يعود لك متسع للتنفس ، كل ذلك بعيداً عن سلامة فكرهم ، حتى لا يساورهم الشك في شيء، يريدون أن يبقوا على أكاذيبهم ، يعجبهم ذلك اللون الذي ورثوه عن آبائهم وأمهاتهم ، كما ورثوا ديانة لا طاقة لهم بها سوى أن يمجدوها بدون تفكير ، لا مجال للشك في ذلك أيضاً ، كلٌ يمارس حياته على طريقته الخاصة لكنها تبقى متشابهة، كل شيء متشابه في هذا الوقت، الطرق، الأماكن ، الملابس، بعض الكتب ، وحتى الكلمات، أصبحت بدون رائحة، سوق إستهلاكي كبير لا ينفك أن يعلن إنتهاء الصلاحية دائماً، لكن دونما جدوى.

على إيقاع أغنية، أخبرتها عن ذلك الشعور، ما يحدث أنك تجلس، تستمع للموسيقى، كأنه لا يكفيني أن ألتهم هذه الأغنية، تلك الطريقة التي تصل بها حد النشوة، تعتريني الموسيقى بكافة أشكالها، هكذا وجدنا الله، بكلمات أخرى هكذا وجدنا الروح ..

وأمد يدي بحثاً عن يديك ..

وكأنه لا يكفيني أن أرددها بدون إنقطاع، في إغماءاتي الأخيرة لم أتوانى عن التفكير بكِ، هل علمتي ؟ ، فقدت شهيتي تجاه أشياء كثيرة، لم أفقد شيئاً تجاهك، أخذت فسحة من الوقت لأتغاضى عنك، لم أستطع، في كل مرة أعود إلى أخطائي المكررة، ليست مبتذلة، وليست قصة مشهورة يعاد تأويلها للمرة الألف، لا أذكر كيف بدأت الحكاية، ولا أؤمن بالنظرات الأولى، أؤمن بالتجربة وبالسقوط ألف مرة على أسوار المحظور في عقولهم، وقعت في خبايا الصوت الذي يعزف لحنا للسماء، أتجرأ على التفوه بالحروف، أتكلم بلهجتي، أستعمل لغة أخرى، لا يكفي أيضاً، أسرق المعاني، أتعمد البساطة، هل يفيد كل ذلك ؟

أفيق من سحابة الأفكار، قطرات مالحة تهتدي إلى ملجأها الأخير  ..

إليك لكي تعرفي ما لم تعرفي من قبل ..